فصل: تفسير الآيات رقم (123- 140)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير السمرقندي، المسمى «بحر العلوم» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏123- 140‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏123‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏124‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏125‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏126‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏127‏)‏ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ ‏(‏128‏)‏ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ‏(‏129‏)‏ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ‏(‏130‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏131‏)‏ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ ‏(‏132‏)‏ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ ‏(‏133‏)‏ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏134‏)‏ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏135‏)‏ قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ ‏(‏136‏)‏ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏137‏)‏ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ‏(‏138‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏139‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏140‏)‏‏}‏

وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏كَذَّبَتْ عَادٌ المرسلين‏}‏ يعني‏:‏ كذبوا هوداً عليه السلام ‏{‏إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ‏}‏ أي‏:‏ نبيهم هود وقد ذكرناه ‏{‏إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ *** فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ *** وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ على رَبّ العالمين‏}‏ وقد تقدم ذكره ‏{‏أَتَبْنُونَ بِكُلّ رِيعٍ ءايَةً‏}‏ يعني‏:‏ بكل طريق علامة ويقال‏:‏ بكل شرف علماً ‏{‏تَعْبَثُونَ‏}‏ يعني‏:‏ تلعبون ويقال‏:‏ تضربون، فتأخذون المال ممن مر بكم‏.‏

وروي عن ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ‏}‏ يعني‏:‏ تبنون ما لا تسكنون‏.‏ وقال أهل اللغة‏:‏ كل لعب لا لذة فيه، فهو عبث‏.‏ واللعب ما كان فيه لذة، فهم إذا بنوا بناء، ولا منفعة لهم فيه، فكأنهم يعبثون ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ‏}‏ يعني‏:‏ القصور وقال مجاهد‏:‏ المصانع قصور وحصون‏.‏ وقال القتبي‏:‏ المصانع البناء واحدها مصنعة ويقال‏:‏ الريع الارتفاع من الأرض‏.‏ ومعناه‏:‏ أنكم تبنون البناء والقصور، وتظنون أن ذلك يحصنكم مِنْ أقدار الله تعالى‏.‏ ويقال‏:‏ وتتخذون مصانع يعني‏:‏ الحياض ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ‏}‏ يعني‏:‏ كأنكم تخلدون في الدنيا‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِذَا بَطَشْتُمْ‏}‏ يعني‏:‏ عاقبتم ويقال‏:‏ يعني‏:‏ ضربتم بالسوط وقتلتم بالسيف ‏{‏بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ‏}‏ يعني‏:‏ فعلتم كفعل الجبارين لأن الجبارين، يضربون ويقتلون بغير حق، وأصل البطش في اللغة هو الأخذ بالقهر والغلبة ‏{‏فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ‏}‏ فيما آمركم به ‏{‏واتقوا الذى أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ أعطاكم ما تعلمون من الخير، ثم بيّن فقال ‏{‏أَمَدَّكُمْ بأنعام وَبَنِينَ‏}‏ يعني‏:‏ أعطاكم الأموال والبنين ‏{‏وجنات وَعُيُونٍ‏}‏ يعني‏:‏ البساتين والأنهار الجارية، فاعرفوا رب هذه النعمة، واشكروه ليديم عليكم النعمة، فإنكم إن لم تشكروه ‏{‏فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ * عظِيمٌ‏}‏ يعني‏:‏ أعلم أنه يصيبكم العذاب في الدنيا والآخرة‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قَالُواْ سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ‏}‏ يعني‏:‏ أنهيتنا وخوفتنا من العذاب ‏{‏أَمْ لَمْ تَكُنْ مّنَ الواعظين‏}‏ يعني‏:‏ من الناهين‏.‏

روي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ هو الوعظ بعينه ‏{‏إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الاولين‏}‏ قرأ أبو عمرو والكسائي وابن كثير‏:‏ إن هذا إلا خلق، بنصب الخاء، وقرأ الباقون بالضم، فمن قرأ بالنصب، فمعناه‏:‏ ما هذا العذاب الذي تذكره إلا أحاديث الأولين‏.‏ ويقال‏:‏ الإحياء بعد الموت لا يكون، وإنما هذا خلق الأولين أنهم يعيشون، ثم يموتون ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ‏}‏ قال القتبي‏:‏ الخلق الكذب كقوله‏:‏ ‏{‏مَا سَمِعْنَا بهذا فِى الملة الاخرة إِنْ هذا إِلاَّ اختلاق‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 7‏]‏ وكقوله‏:‏ ‏{‏إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الاولين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 137‏]‏ أي‏:‏ خوضهم للكذب‏.‏ والعرب تقول للخرافات أحاديث الخلق قال‏:‏ وأعمل الخلق التقدير، وهاهنا أراد بهم اختلافهم، وكذبهم، وأما من قرأ بضم الخاء، فمعناه‏:‏ إن هذا إلا عادة الأولين، والعادة أيضاً تحتمل المعنيين، مثل الأول‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏فَكَذَّبُوهُ فأهلكناهم‏}‏ يعني‏:‏ كذبوا هوداً فأهلكناهم ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً‏}‏ يعني‏:‏ لعبرة لمن يعمل عمل الجبارين، ولا يقبل الموعظة، وهو تخويف لهذه الأمة ‏{‏وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ‏}‏ يعني‏:‏ قوم عاد ولو كان أكثرهم لم يهلكهم الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز‏}‏ يعني‏:‏ المنيع بالنقمة لمن يعمل عمل الجبارين، ولا يقبل الموعظة، وهو تخويف لهذه الأمة لكيلا يسلكوا مسالكهم ‏{‏الرحيم‏}‏ لمن تاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏141- 159‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏141‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏142‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏143‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏144‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏145‏)‏ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ ‏(‏146‏)‏ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏147‏)‏ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ‏(‏148‏)‏ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ‏(‏149‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏150‏)‏ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏151‏)‏ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ‏(‏152‏)‏ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ‏(‏153‏)‏ مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏154‏)‏ قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ‏(‏155‏)‏ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏156‏)‏ فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ ‏(‏157‏)‏ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏158‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏159‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏كَذَّبَتْ ثَمُودُ المرسلين‏}‏ يعني‏:‏ صالحاً ومن قبله من المرسلين عليهم السلام ‏{‏إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ نبيهم ‏{‏صالح أَلا تَتَّقُونَ‏}‏ وقد ذكرناه ‏{‏إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ *** فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ *** وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ على رَبّ العالمين‏}‏ وقد ذكرناه ‏{‏أَتُتْرَكُونَ *** فِيمَا ***** هاهنا *** ءامِنِينَ‏}‏ يعني‏:‏ في هذا الخير والسعة آمنين من الموت ‏{‏فِى جنات وَعُيُونٍ‏}‏ يعني‏:‏ البساتين والأنهار‏.‏ ويقال‏:‏ العيون هاهنا الآثار، لأن قوم صالح لم يكن لهم أنهار جارية‏.‏ ويقال‏:‏ كانت لهم بالشتاء آبار، وكانوا يسكنون في الجبال، وفي أيام الصيف كانوا يخرجون إلى القصور والكروم والأنهار‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ يعني‏:‏ متراكباً بعضه على بعض‏.‏ وقال القتبي‏:‏ الهضيم الطلع قبل أن تنشق عنه القشر يريد أنه ينضم متكثر يقال‏:‏ رجل أهضم الكشحين إذا كان منضماً‏.‏ ويقال‏:‏ هضيم أي طري لين ويقال‏:‏ هضيم متهشهش في الفم ‏{‏وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً فارهين‏}‏ قرأ أبو عمرو وابن كثير ونافع‏:‏ ‏{‏فارهين‏}‏ بغير ألف، وقرأ الباقون ‏{‏فارهين‏}‏ بالألف، فمن قرأ ‏{‏فارهين‏}‏، فهو بمعنى أشرين بطرين، وهو الطغيان في النعمة، وإنما صار نصباً على الحال، ومن قرأ ‏{‏فارهين‏}‏، أي حاذقين ‏{‏فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ‏}‏ فيما آمركم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُطِيعُواْ أَمْرَ المسرفين‏}‏ يعني‏:‏ قول المشركين وهم التسعة رهط ‏{‏الذين‏}‏ كانوا ‏{‏يُفْسِدُونَ فِى الارض وَلاَ يُصْلِحُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لا يأمرون بالصلاح، ولا يجيبونه، ولا يطيعونه فأجابوه قوله‏:‏ ‏{‏قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المسحرين‏}‏ يعني‏:‏ من المخلوقين‏.‏ ويقال‏:‏ ذو سحر، والسحر هو الدية، يعني‏:‏ إنك مثلنا‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ من المسحرين، أي من المخلوقين‏.‏ وقال‏:‏ أما سمعت قول لبيد‏:‏

فإن تسألينا فيم نحن فإننا *** عصافير من هذا الأنام المسحر

ويقال إنما أنت من المسحرين‏.‏ يعني‏:‏ سوقة مثلنا، والسوق إذا كان دون السلوك‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا‏}‏ يعني‏:‏ آدمي مثلنا ‏{‏مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا فَأْتِ‏}‏ أنك رسول الله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ هذه نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ‏}‏ والشرب في اللغة النصيب من الماء والشُرب بضم الشين المصدر، والشَرب بنصب الشين جماعة الشراب، فكان للناقة شرب يوم، ولهم شرب يوم، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ *** وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء‏}‏ يعني‏:‏ لا تصيبوها بعقر يعني‏:‏ لا تقتلوها، فإنكم إن قتلتموها ‏{‏فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ يعني‏:‏ صيحة جبريل عليه السلام ‏{‏فَعَقَرُوهَا‏}‏ يعني‏:‏ قتلوا الناقة ‏{‏فَأَصْبَحُواْ نادمين‏}‏ يعني‏:‏ فصاروا نادمين على عقرها قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَأَخَذَهُمُ العذاب‏}‏ يعني‏:‏ عاقبهم الله تعالى بالعذاب ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً‏}‏ يعني‏:‏ لعبرة لمن يعظم آيات الله تعالى، وكانت النَّاقة علامة لنبوة صالح عليه السلام، فلما أهلكوها ولم يعظموها صاروا نادمين، والقرآن علامة لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم، فمن رفضه، ولم يعمل بما فيه، ولم يعظمه يصير نادماً غداً، ويصيبه العذاب ‏{‏وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ‏}‏ يعني‏:‏ قوم صالح عليه السلام ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم‏}‏ يعني‏:‏ المنيع بالنقمة لمن لم يعظم آيات الله تعالى، الرحيم لمن تاب ورجع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏160- 175‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏160‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏161‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏162‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏163‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏164‏)‏ أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏165‏)‏ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ‏(‏166‏)‏ قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ ‏(‏167‏)‏ قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ ‏(‏168‏)‏ رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ ‏(‏169‏)‏ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ‏(‏170‏)‏ إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ‏(‏171‏)‏ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ ‏(‏172‏)‏ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ ‏(‏173‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏174‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏175‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ المرسلين‏}‏ يعني‏:‏ لوطاً وغيره ‏{‏إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ‏}‏ وقد ذكرناه ‏{‏إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ *** وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ على رَبّ العالمين‏}‏ وقد ذكرناه ‏{‏أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين‏}‏ يعني‏:‏ أتجامعون الرجال من بين العالمين ‏{‏وَتَذَرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ وتتركون ‏{‏مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مّنْ أزواجكم‏}‏ يعني‏:‏ من نسائكم ‏{‏بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ‏}‏ يعني‏:‏ معتدين من الحلال إلى الحرام ‏{‏قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالوط *** لُوطٍ‏}‏ من مقالتك ‏{‏لَتَكُونَنَّ مِنَ المخرجين‏}‏ من قريتنا ‏{‏قَالَ إِنّى لِعَمَلِكُمْ مّنَ القالين‏}‏ يعني‏:‏ من المبغضين ويقال‏:‏ قلت الرجل إذا بغضته ومنه قوله‏:‏ ‏{‏مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 3‏]‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏رَبّ نَّجِنِى وَأَهْلِى مِمَّا يَعْمَلُونَ‏}‏ من الفواحش ‏{‏فنجيناه وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عَجُوزاً فِى الغابرين‏}‏ يعني‏:‏ الباقين في العذاب‏.‏ يعني‏:‏ وامرأته ويقال‏:‏ إن هذا من أسماء الأضداد‏.‏ يقال‏:‏ غبر الشيء إذا مضى، وغبر الشيء إذا بقي‏:‏ وقال بعض أهل اللغة‏:‏ القالي التارك للشيء، الكاره له غاية الكراهية ‏{‏ثُمَّ دَمَّرْنَا الاخرين‏}‏ يعني‏:‏ أهلكنا الباقين ‏{‏وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا‏}‏ يعني‏:‏ الحجارة ‏{‏فَسَاء مَطَرُ المنذرين‏}‏ يعني‏:‏ بئس مطر من أنذر، فلم يؤمن ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً‏}‏ يعني‏:‏ لعبرة لمن عمل الفواحش، أي وارتكب الحرام ‏{‏وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم‏}‏ يعني‏:‏ المنيع بالنقمة لمن ارتكب الفواحش، وعمل الحرام رحيم لمن تاب، وقد ذكرناه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏176- 180‏]‏

‏{‏كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏176‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏177‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏178‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏179‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏180‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏كَذَّبَ أصحاب لْئَيْكَةِ‏}‏ قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ‏{‏لْئَيْكَةِ‏}‏ بكسر الهاء والألف، والباقون ‏{‏***ليكة‏}‏ بغير ألف ونصب الهاء اسم بلد، ولا ينصرف‏.‏ من قرأ الأيكة فلأنها عرفت بالألف واللام، فيصير خفضاً بالإضافة في الشاذ ليكة بكسر الهاء بغير ألف، لأن الأصحاب مضاف إلى ليكة، فصار اسماً واحداً‏.‏ ويقال‏:‏ الأيكة هي الشجرة الملتفة يقال‏:‏ أيك وأيكة، مثل أجم وأجمة، ويقال‏:‏ شجرة الدوم، وهو شجر المقل‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏المرسلين إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ‏}‏ ولم يقل أخوهم قال بعضهم‏:‏ كان شعيب بعث إلى قومين أحدهما مدين، وكان شعيب منهم، فسماه أخاهم حيث قال‏:‏ ‏{‏وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان إنى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وإنى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 84‏]‏، والآخر أصحاب الأيكة، ولم يكن شعيب عليه السلام منهم، فلم يقل أخوهم وقال بعضهم‏:‏ كان مدين، والأيكة واحداً، وهو الغيضة بقرب مدين، فذكره في موضع أخوهم، ولم يذكره في الآخر‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏أَلاَ تَتَّقُونَ‏}‏ يعني‏:‏ ألا تخافون الله تعالى فتوحدوه ‏{‏إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ *** فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ *** وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ على رَبّ العالمين‏}‏ وقد ذكرناه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏181- 191‏]‏

‏{‏أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ ‏(‏181‏)‏ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ‏(‏182‏)‏ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏183‏)‏ وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ ‏(‏184‏)‏ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ‏(‏185‏)‏ وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏186‏)‏ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏187‏)‏ قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏188‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏189‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏190‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏191‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏أَوْفُواْ الكيل وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المخسرين‏}‏ يعني‏:‏ من الناقصين في الكيل والوزن، وفي هذا دليل على أنه أراد بهذا أهل مدين، لأنه ذكر في تلك الآية ‏{‏وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا وَلَوْ كَانَ ذَا قربى وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ ذلكم وصاكم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 152‏]‏ كما ذكرها هنا ثم قال‏:‏ ‏{‏وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم‏}‏ يعني‏:‏ بميزان العدل بلغة الروم‏.‏ ويقال‏:‏ هو القبان ‏{‏وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ لا تنقصوا الناس حقوقهم قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص ‏{‏بالقسطاس‏}‏ بكسر القاف، والباقون بالضم، وهما لغتان‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الارض مُفْسِدِينَ‏}‏ يعني‏:‏ لا تسعوا فيها بالمعاصي‏.‏ يقال‏:‏ عثى يعثو وعاث يعيث، وعثى يعثي إذا ظهر الفساد‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏واتقوا الذى خَلَقَكُمْ والجبلة الاولين‏}‏ يعني‏:‏ الخليقة الأولى ‏{‏قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المسحرين * وَمَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا‏}‏ وقد ذكرنا ‏{‏وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين‏}‏ يعني‏:‏ ما نظنك إلا من الكاذبين ‏{‏فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مّنَ السماء‏}‏ أي جانباً من السماء، وقرئ ‏{‏كِسَفًا‏}‏ بنصب السين، أي قطعاً، وهو جمع كسفة ‏{‏إِن كُنتَ مِنَ الصادقين * قَالَ‏}‏ لهم شعيب عليه السلام‏:‏ ‏{‏رَبّى أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ من نقصان الكيل ‏{‏فَكَذَّبُوهُ‏}‏ في العذاب ‏{‏فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة‏}‏ لأنه أصابهم حر شديد، فخرجوا إلى غيضة، فاستظلوا بها، فأرسل عليهم ناراً، فأحرقت الغيضة، فاحترقوا كلهم ‏{‏إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ صار العذاب نصباً، لأنه خبر كان ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً‏}‏ يعني‏:‏ لعبرة لمن نقص في الكيل والوزن ‏{‏وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ‏}‏ يعني‏:‏ قوم شعيب ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز‏}‏ بالنقمة لمن نقص الكيل والوزن ‏{‏الرحيم‏}‏ لمن تاب ورجع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏192- 199‏]‏

‏{‏وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏192‏)‏ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ‏(‏193‏)‏ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ‏(‏194‏)‏ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ‏(‏195‏)‏ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ‏(‏196‏)‏ أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏197‏)‏ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ ‏(‏198‏)‏ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ‏(‏199‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ العالمين‏}‏ يعني‏:‏ القرآن ويقال‏:‏ إنه إشارة إلى ما ذُكر في أول السورة تلك آيات الكتاب المبين، وأنه يعني‏:‏ الكتاب لتنزيل رب العالمين ‏{‏نَزَلَ بِهِ الروح الامين‏}‏ قرأ حمزة والكسائي وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر ‏{‏نَزَّلَ‏}‏ بالتشديد وقرأ الباقون بالتخفيف، فمن قرأ بالتشديد، فمعناه نَزَّلَ الله تعالى بالقرآن الروح الأمين، يعني‏:‏ جبريل عليه السلام نصب الروح لوقوع الفعل عليه، يعني‏:‏ أنزل الله تعالى جبريل بالقرآن، ومن قرأ بالتخفيف، فمعناه نزل جبريل عليه السلام بالقرآن، فجعل الروح رفعاً، لأنه فاعل ثم قال‏:‏ ‏{‏على قَلْبِكَ‏}‏ أي نزله عليك ليثبت به قلبك ويقال أي يحفظ به قلبك‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏على قَلْبِكَ‏}‏ أي نزل على قدر فهمك وحفظك‏.‏ ويقال‏:‏ أي نزله عليك فوعاه قلبك، وثبت فيه، فلا تنساه أبداً كما قال‏:‏ ‏{‏سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 6‏]‏ ويقال‏:‏ على قلبك يعني‏:‏ على موافقة قلبك ومرادك ‏{‏لِتَكُونَ مِنَ المنذرين‏}‏ يعني‏:‏ من المخوفين بالقرآن للكفار من النار‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ‏}‏ يعني‏:‏ مبين لهم بلغتهم‏.‏ ويقال‏:‏ بلغة قريش وهوازن، وكان لسانهما أفصح‏.‏ قال مقاتل‏:‏ وذلك أنهم كانوا يقولون‏:‏ إنه يُعلمه أبو فكيهة، وكان أعجمياً رومياً، فأخبر أن القرآن بلغة قريش ‏{‏وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الاولين‏}‏ يعني‏:‏ أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونعته وصفته في كتب الأولين، كما قال‏:‏ ‏{‏الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبى الأمى الذى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التوراة والإنجيل يَأْمُرُهُم بالمعروف وينهاهم عَنِ المنكر وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبائث وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والاغلال التى كَانَتْ عَلَيْهِمْ فالذين ءَامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ واتبعوا النور الذى أُنزِلَ مَعَهُ أولئك هُمُ المفلحون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏ والزبر الكتب، واحدها زبور، مثل رسل ورسول، ويقال‏:‏ إنه يعني‏:‏ القرآن لفي زبر الأولين، يعني‏:‏ بعضه كان في كتب الأولين، ويقال‏:‏ نعت القرآن، وخبره كان في كتب الأولين، ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ ءايَةً‏}‏ بالتاء وضم الهاء، وقرأ الباقون بالياء بلفظ التذكير ‏{‏ءايَةً‏}‏ بالنصب، فمن قرأ بلفظ التذكير والنصب، جعل ‏{‏أَن يَعْلَمَهُ‏}‏ اسم كان، وجعل ‏{‏ءايَةً‏}‏ خبر كان، والمعنى أو لم يكن لهم علم علماء بني إسرائيل على جهة المعنى‏.‏ ومن قرأ بلفظ التأنيث والضم، جعل ‏{‏ءايَةً‏}‏ هي الاسم، ‏{‏وَأَنْ * يَعْلَمْهُ‏}‏ خبر تكن، ومعنى القراءتين واحد، وذلك أن كفار مكة بعثوا رسولاً إلى يهود المدينة، وسألوهم عن بعثته فقالوا‏:‏ هذا زمان خروجه ونعته كذا، فنزل‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ ءايَةً‏}‏ يعني‏:‏ لكفار مكة علامة ‏{‏أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِى إسراءيل‏}‏ يعني‏:‏ إن هذا علامة لهم ليؤمنوا به‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ نزلناه على بَعْضِ الاعجمين‏}‏ يعني‏:‏ القرآن لو نزلناه بالعبرانية على رجل ليس بعربي اللسان من العبرانيين ‏{‏فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم‏}‏ يعني‏:‏ على كفار مكة ‏{‏مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ‏}‏ يعني‏:‏ بالقرآن، فهذا منة من الله تعالى، حيث خاطبهم بلغتهم ليعرفوه وليفهموه‏.‏ وقال القتبي‏:‏ في قوله على بعض الأعجمين‏.‏ يقال‏:‏ رجل أعجمي إذا كان في لسانه عجمة، وإن كان من العرب، ورجل عجمي بغير ألف إذا كان من العجم وإن كان فصيح اللسان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏200- 213‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏200‏)‏ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ‏(‏201‏)‏ فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏202‏)‏ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ ‏(‏203‏)‏ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏204‏)‏ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ‏(‏205‏)‏ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ ‏(‏206‏)‏ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ‏(‏207‏)‏ وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ ‏(‏208‏)‏ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏209‏)‏ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ‏(‏210‏)‏ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ‏(‏211‏)‏ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ‏(‏212‏)‏ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ‏(‏213‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ‏}‏ يعني‏:‏ جعلنا التكذيب بالقرآن ‏{‏فِى قُلُوبِ المجرمين‏}‏ يعني‏:‏ المشركين مجازاة لهم أن طبع على قلوبهم، وسلك فيها التكذيب‏.‏ ويقال‏:‏ جعل حلاوة الكفر في قلوبهم ‏{‏لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ‏}‏ يعني‏:‏ بالقرآن ويقال‏:‏ بمحمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏حتى يَرَوُاْ العذاب الاليم‏}‏ في الدنيا والآخرة ‏{‏فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً‏}‏ يعني‏:‏ يأتيهم العذاب فجأة ‏{‏وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ به فيتمنون الرجعة والنظرة ‏{‏فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ‏}‏ فلما وعدهم العذاب قالوا‏:‏ فأين العذاب‏؟‏ تكذيباً به يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ‏}‏ يعني‏:‏ أبمثل عذابنا يستهزئون ثم قال ‏{‏أَفَرَأَيْتَ إِن متعناهم سِنِينَ‏}‏ يعني‏:‏ سنين الدنيا كلها‏.‏ ويقال‏:‏ سنين كثيرة ‏{‏ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ‏}‏ من العذاب‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏مَا أغنى عَنْهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ ما ينفعهم ‏{‏مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ‏}‏ في الدنيا‏.‏ ثم خوفهم فقال‏:‏ ‏{‏وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ‏}‏ يعني‏:‏ من أهل قرية فيما خلا ‏{‏إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ رسلاً ينذرونهم ‏{‏ذِكْرِى‏}‏ يعني‏:‏ العذاب تذكرة وتفكراً، قال بعضهم‏:‏ إن ‏{‏ذِكْرِى‏}‏ في موضع النصب‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ في موضع رفع، أما من قال‏:‏ في موضع النصب، فيقول لها منذرون يذكرونهم ذكرى، يعني‏:‏ يعظونهم عظة‏.‏ ومن قال‏:‏ إنه في موضع رفع فيقول لها منذرونهم ذكرى ‏{‏وَمَا كُنَّا ظالمين‏}‏ يعني‏:‏ بإهلاكنا إياهم ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين‏}‏‏.‏

روي عن الحسن أنه قرأ ‏{‏وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ‏}‏ شبههُ بقوله‏:‏ كافرون ومسلمون‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ وهذا وهم، لأن واحدها شيطان، والنون فيه أصلية أما مسلمون وكافرون، فالنون فيهما زائدة في الجمع، لأن واحدهما مسلم وكافر‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هذا غلط على الحسن، لأنه كان فصيحاً لا يخفى عليه، وإنما الغلط من الراوي، ومعنى الآية أن المشركين كانوا يقولون‏:‏ إن الشيطان هو الذي يقرأ عليه‏.‏ قال الله تعالى رداً لقولهم‏:‏ ‏{‏ظالمين وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين‏}‏ ‏{‏وَمَا يَنبَغِى لَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ وما جاز لهم ‏{‏وَمَا يَسْتَطِيعُونَ‏}‏ ذلك وقد حيل بينهم وبين السمع‏.‏

وقد روي عن ابن عباس أنه قال لا يستطيعون أن يحملوا القرآن، ولو فعلوا ذلك لاحترقوا‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ‏}‏ يعني‏:‏ إنهم عن الاستماع لمحجوبون وممنوعون ثم قال ‏{‏فَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها ءاخَرَ‏}‏ وذلك حين دُعي إلى دين آبائه، فأخبر الله تعالى أنه لو اتخذ إلها آخر عذبه الله تعالى، وإن كان كريماً عليه كقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 65‏]‏ فكيف بغيره‏.‏

وروي في الخبر‏:‏ أن الله تعالى أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل، يقال له أرميا، بأن يخبر قومه بأن يرجعوا عن المعصية، فإنهم إن لم يرجعوا أهلكتهم، فقال أرميا‏:‏ يا رب إنهم أولاد أنبيائك، وأولاد إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام، أفتهلكهم بذنوبهم‏؟‏ فقال الله تعالى‏:‏ وإنما أكرمت أنبيائي، لأنهم أطاعوني، ولو أنهم عصوني لعذبتهم، وإن كان إبراهيم خليلي ويقال‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها ءاخَرَ‏}‏ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم المراد به غيره، لأنه علم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يتخذ إلهاً آخر ثم قال ‏{‏فَتَكُونَ مِنَ المعذبين‏}‏ إن عبدت غيري، فتكون من الهالكين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏214- 220‏]‏

‏{‏وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ‏(‏214‏)‏ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏215‏)‏ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏216‏)‏ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ‏(‏217‏)‏ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ‏(‏218‏)‏ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ‏(‏219‏)‏ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏220‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقربين‏}‏ يعني‏:‏ خوف أقرباءك بالنار لكي يؤمنوا، أو يثبتوا على الإيمان من كان منهم مؤمناً‏.‏ وروى هشام عن الحسن قال لما نزلت هذه الآية ‏{‏وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقربين‏}‏ جمع النبي صلى الله عليه وسلم أهل بيته فقال لهم‏:‏ «يَا بَنِي هَاشِمٍ يَا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ، وَأَنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ الله شَيْئاً، لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ، وَإِنَّما أَوْلِيائِي مِنْكُمُ المُتَّقُونَ، فَلا أَعْرِفَنَّ مَا جَاءَ النَّاسَ يَوْمَ القِيَامَةِ بِالآخِرَةِ، وَجِئْتُمْ بِالدُّنْيا تَحْمِلُونَها عَلَى رِقَابِكُمْ» وذكر السدي هكذا ثم قال‏:‏ «أَلا فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ»‏.‏ وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال لما نزل ‏{‏وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقربين‏}‏ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا، فصعد عليه، ثم نادى بأعلى صوته‏:‏ «يا صباحاه» فاجتمع الناس فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يَا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ يَا بَنِي هَاشِمٍ، أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِسَفْحِ هذا الجَبَلِ تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أَصَدَّقْتُمُونِي‏؟‏» قالوا‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ «فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَي عَذَابٍ شَدِيدٍ»‏.‏ فقال أبو لهب‏:‏ تباً لك سائر اليوم ألهذا دعوتنا‏؟‏ فنزل ‏{‏تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ‏}‏ ‏[‏المسد‏:‏ 1‏]‏‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين‏}‏ يعني‏:‏ لين جانبك لمن اتبعك من المؤمنين يعني‏:‏ من المصدقين ‏{‏فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ فيها تقديم يعني‏:‏ الأقربين أي‏:‏ فإن خالفوك ‏{‏فَقُلْ إِنّى بَرِئ مّمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ من الشرك ثم قال‏:‏ ‏{‏وَتَوكَّلْ عَلَى العزيز الرحيم‏}‏ قرأ نافع وابن عامر بالفاء فتوكل، لأنه متصل بالكلام الأول، ودخلت الفاء للجزاء وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏وَتَوَكَّلْ‏}‏ بالواو على وجه العطف، ‏{‏وَتَوكَّلْ عَلَى العزيز الرحيم‏}‏ يعني‏:‏ أي ثق بالله، وفوض جميع أمورك إلى العزيز الرحيم ‏{‏الذى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ‏}‏ في الصلاة وحدك ‏{‏وَتَقَلُّبَكَ فِى الساجدين‏}‏ أي‏:‏ وحين تصلي في الجماعة‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ وتقلبك في الساجدين قال في حال القيام والركوع والسجود يعني‏:‏ يرى قيامك وركوعك وسجودك، ويراك مع المصلين ويقال‏:‏ الذي يراك حين تقوم من مقامك للصلاة بالليل، ويقال‏:‏ حين تقوم وتدعو الناس إلى شهادة أن لا إله إلا الله، ويقال وتقلبك في الساجدين يعني‏:‏ تقلبك في أصلاب الآباء، وأرحام الأمهات من آدم إلى نوح، وإلى إبراهيم، وإلى من بعده صلوات الله عليهم‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ هُوَ السميع العليم‏}‏ يعني‏:‏ بآبائهم وبأعمالهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏221- 227‏]‏

‏{‏هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ ‏(‏221‏)‏ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ‏(‏222‏)‏ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ‏(‏223‏)‏ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ‏(‏224‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ‏(‏225‏)‏ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ‏(‏226‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ‏(‏227‏)‏‏}‏

ثم قال ‏{‏هَلْ أُنَبّئُكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ هل أخبركم ‏{‏على مَن تَنَزَّلُ الشياطين‏}‏ هذا موصول بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين‏}‏ ‏{‏تَنَزَّلُ على كُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ‏}‏ يعني‏:‏ كذاب صاحب الإثم، فاجر القلب‏.‏ الأفاك الكذاب، والأثيم الفاجر، يعني به كهنة الكفار ‏{‏يُلْقُونَ السمع‏}‏ يعني‏:‏ يلقون بآذانهم إلى السمع من السماء لكلام الملائكة عليهم السلام ‏{‏وَأَكْثَرُهُمْ كاذبون‏}‏ يعني‏:‏ حين يخبرون الكهنة‏.‏

وروى معمر عن الزهري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت‏:‏ الشياطين تسترق السمع، فتجيء بكلمة حق، فتقذفها في أذن وليها، فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة، وهذا كان قبل أن يحجبوا من السماء ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏والشعراء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون‏}‏ قال قتادة ومجاهد‏:‏ يتبعهم الشياطين‏.‏ وقال في رواية الكلبي‏:‏ الغاوون هم الرواة الذين كانوا يروون هجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فيتبعهم‏.‏ ويقال‏:‏ الغاوون هم الضالون‏.‏ ويقال‏:‏ شعراء الكفار كانوا يهجون رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ في كل وجه وفن يذهبون ويخوضون، يأخذون مرة يذمون، ومرة يمدحون، وذكر عن القتبي أنه قال‏:‏ في كل واد يهيمون من القول، وفي كل مذهب يذهبون كما تذهب البهائم على وجهها‏.‏ وقال غيره‏:‏ هام الرجل والبعير، إذا مضى على وجهه، لا يدري أين يذهب، فكذلك الشاعر يأخذ كلامه لا يدري أين ينتهي‏.‏ قرأ نافع وحده يتبعهم بجزم التاء، والتخفيف، وقرأ الباقون يتبعهم بنصب التاء والتشديد، وهما بمعنى واحد يتبعهم ويتبعهم ثم قال‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ‏}‏ يعني‏:‏ أن الشعراء يقولون‏:‏ قد فعلنا كذا وكذا‏.‏ وقلنا‏:‏ كذا، فيمدحون بذلك أنفسهم وهم كذبة، ثم استثنى شعراء المسلمين حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك رضي الله عنهم، فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً‏}‏ يعني‏:‏ ذكروا الله في أشعارهم‏.‏ ويقال‏:‏ وذكروا الله عز وجل في الأحوال كلها ‏{‏وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ‏}‏ يعني‏:‏ انتصر شعراء المسلمين من شعراء الكافرين، فكافؤوهم والبادئ أظلم‏.‏ ويقال‏:‏ انتصروا من أهل مكة من بعدما أخرجوا، لأن الحرب تكون بالسيف وباللسان، فأذن القتال بالشعر، كما أذن بالسيف، إذ فيه قهرهم‏.‏

ثم أوعد شعراء الكافرين فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَسَيَعْلَمْ الذين ظَلَمُواْ‏}‏ يعني‏:‏ الذين هجوا المسلمين ‏{‏أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ‏}‏ يعني‏:‏ أي مرجع يرجعون إليه في الآخرة يعني‏:‏ إلى الخسران والنار‏.‏ ويقال‏:‏ هاتان الآيتان مدنيتان، يذكر أنه لما نزل ‏{‏والشعراء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون‏}‏ جاء عبد الله بن رواحة، وحسان بن ثابت، وهما يبكيان فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏والشعراء‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ فقال‏:‏ عليه السلام ‏"‏ هذا أنتم ‏{‏وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ‏}‏»‏.‏ وروي عن عكرمة قال عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً، وَإِنَّ مِنَ الشُّعَرَاءِ لَحُكَمَاءَ ‏"‏ وفي رواية أخرى‏:‏ ‏"‏ وَإِنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْراً ‏"‏ والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم‏.‏

سورة النمل

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 7‏]‏

‏{‏طس تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏1‏)‏ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏2‏)‏ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ‏(‏3‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏4‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ‏(‏5‏)‏ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآَنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ‏(‏6‏)‏ إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا سَآَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

قول الله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏طس تِلْكَ ءايات القرءان‏}‏ يعني‏:‏ هذه الأحكام ويقال‏:‏ تلك الآيات التي وعدتم بها، وذلك أنهم وعدوا بالقرآن في كتبهم‏.‏ ويقال‏:‏ يعني‏:‏ العلامات جميع الأحرف للقرآن ‏{‏وكتاب مُّبِينٌ‏}‏ كلاهما واحد، وإنما كرر اللفظ للتأكيد ‏{‏مُّبِينٌ‏}‏ يعني‏:‏ بيّن ما فيه من أمره ونهيه‏.‏ ويقال‏:‏ مبين للأحكام الحلال والحرام‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏هُدًى‏}‏ يعني‏:‏ القرآن هدى وبياناً من الضلالة لمن عمل به‏.‏ ويقال ‏{‏هُدًى‏}‏ يعني‏:‏ هادياً ‏{‏وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ يعني‏:‏ ما فيه من الثواب للمؤمنين، قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو وورش عن نافع ‏{‏وبشرى‏}‏ بإمالة الراء، وقرأ الباقون بالتفخيم، وكلاهما جائز، والإمالة أكثر في كلام العرب، والتفخيم أفصح، وهي لغة أهل الحجاز ‏{‏لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏، يعني‏:‏ للمصدقين بالقرآن أنه من الله تعالى‏.‏ ثم نعتهم فقال‏:‏ ‏{‏الذين يُقِيمُونَ الصلاة‏}‏ يعني‏:‏ يقرون بها ويتمونها ‏{‏وَيُؤْتُونَ الزكواة‏}‏ يعني‏:‏ يقرون بها ويعظمونها ‏{‏وَهُم بالاخرة هُمْ يُوقِنُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يصدقون بأنها كائنة ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة‏}‏ أي‏:‏ لا يصدقون بالبعث بعد الموت ‏{‏زَيَّنَّا لَهُمْ أعمالهم‏}‏ يعني‏:‏ ضلالتهم عقوبة لهم ولما عملوا، ومجازاة لكفرهم زينا لهم سوء أعمالهم ‏{‏فَهُمْ يَعْمَهُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يترددون فيها، ويتحيرون في ضلالتهم‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ يعني‏:‏ أهل هذه الصفة ‏{‏الذين لَهُمْ سُوء العذاب‏}‏ يعني‏:‏ شدة العذاب ‏{‏وَهُمْ فِى الاخرة هُمُ الاخسرون‏}‏ يعني‏:‏ الخاسرون بحرمان النجاة، والمنع من الحسنات‏.‏ ويقال‏:‏ هم أخسر من غيرهم وقال أهل اللغة متى ذكر الأخسر مع الألف واللام، فيجوز أن يراد به الأخسر من غيرهم‏.‏ وإن لم يذكر غيرهم، وإن ذكر بغير ألف ولام، فلا يجوز أن يقال‏:‏ هو أخسر إلا أن يبين أنه هو أخسر من فلان أو من غيره‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرءان‏}‏ يعني‏:‏ كقوله ‏{‏وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الذين صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظِّ عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 35‏]‏ يعني‏:‏ مما يؤتي بها‏.‏ ويقال‏:‏ وما يؤتي، ‏{‏وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرءان‏}‏ يعني‏:‏ لتلقن القرآن‏.‏ وقال أهل اللغة تلقى وتلقن بمعنى واحد إذا أخذ وَقُبِلَ من غيره ويقال ‏{‏وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرءان‏}‏، أي يلقى إليك القرآن وحياً من الله عز وجل‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ‏}‏ يعني‏:‏ نزل عليك جبريل من عند حكيم عليم في أمره، عليم بأعمال الخلق قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ موسى لاِهْلِهِ‏}‏ قال بعضهم‏:‏ معناه إنه عليم بما نزل عليك، كعلمه بقول موسى عليه السلام ويقال‏:‏ حكمت لك بالنبوة، كما حكمت لموسى، إذ قال لأهله‏:‏ ‏{‏إِنّى آنَسْتُ نَاراً‏}‏ يعني‏:‏ رأيت ناراً ‏{‏إِذْ قَالَ موسى‏}‏ يعني‏:‏ خبر الطريق ‏{‏إِذْ قَالَ موسى لاِهْلِهِ‏}‏ يعني‏:‏ بنارٍ ويقال‏:‏ كل أبيض ذو نور فهو شهاب، والقبس كل ما يقتبس من النار، والقبس يعني‏:‏ المقبوس‏.‏ كما يقال‏:‏ ضرب فلان، يعني‏:‏ مضروبه‏.‏

قرأ عاصم وحمزة والكسائي ‏{‏شِهَابٌ *** قَبَسٍ‏}‏ بالتنوين، وقرأ الباقون بغير تنوين، فمن قرأ منوناً، جعل القبس نعت الشهاب ومن قرأ بشهاب غير منون، أضاف الشهاب إلى القبس ثم قال ‏{‏لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ‏}‏ يعني‏:‏ تستدفئون من البرد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 14‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏8‏)‏ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏9‏)‏ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ‏(‏10‏)‏ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏11‏)‏ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آَيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ‏(‏12‏)‏ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏13‏)‏ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءهَا‏}‏ يعني‏:‏ النار ويقال يعني‏:‏ الشجرة ‏{‏نُودِىَ أَن بُورِكَ مَن فِى النار‏}‏ يعني‏:‏ بورك مَنْ عند النار، وهو موسى عليه السلام ‏{‏وَمَنْ حَوْلَهَا‏}‏ يعني‏:‏ الملائكة عليهم السلام وهو على وجه التقديم يعني‏:‏ فلما جاءها ومن حولها من الملائكة، نودي أن بورك من في النار، أي‏:‏ عند النار‏.‏ ويقال‏:‏ من في طلب النار أو قصدها والمعنى‏:‏ بورك فيك يا موسى‏.‏ وقال أهل اللغة‏:‏ باركه وبارك فيه، وبارك عليه واحد، وهذا تحية من الله تعالى لموسى عليه السلام ثم قال‏:‏ ‏{‏وسبحان الله‏}‏ يعني‏:‏ قيل له قل سبحان الله تنزيهاً لله تعالى من السُّوء ويقال‏:‏ إنه أي الله في النداء قال‏:‏ فسبحان الله ‏{‏رَبّ العالمين‏}‏ وقال بعض المفسرين‏:‏ كان ذلك نور رب العزة، وإنما أراد به تعظيم ذلك النور، كما يقال للمساجد بيوت الله تعظيماً لها‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏العالمين ياموسى إِنَّهُ أَنَا الله‏}‏ وذكر عن الفراء أنه قال‏:‏ هذه الهاء عماد، وإنما يراد به وصل الكلام، كما يقال‏:‏ إنما، وما يكون للوصل كذلك هاهنا، فكأنه قال‏:‏ يا موسى إني أنا الله ‏{‏العزيز الحكيم‏}‏ ويقال‏:‏ معناه إن الذي تسمع نداءه هو الله العزيز الحكيم قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأَلْقِ عَصَاكَ‏}‏ يعني‏:‏ من يدك فألقاها، فصارت حية، وقد يجوز أن يضمر الكلام إذا كان في ظاهره دليل ‏{‏فَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ‏}‏ يعني‏:‏ تتحرك ‏{‏كَأَنَّهَا جَانٌّ‏}‏ يعني‏:‏ حية والجان هي الحية الخفيفة الأهلية، فإن قيل‏:‏ إنه قال في آية أخرى، ‏{‏فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 107‏]‏ والثعبان الحية الكبيرة، فأجاب بعض أصحاب المعاني أنه كان في كبر الثعبان، وفي خفة الجان قال الفقيه أبو الليث رحمه الله‏:‏ والجواب الصحيح أن الثعبان كان عند فرعون، والجان عند الطور ثم قال‏:‏ ‏{‏ولى مُدْبِراً‏}‏ يعني‏:‏ أدبر هارباً من الخوف ‏{‏وَلَمْ يُعَقّبْ‏}‏ يعني‏:‏ لم يرجع ويقال‏:‏ لم يلتفت يقول الله تعالى لموسى ‏{‏خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ‏}‏ من الحية ‏{‏إِنّى لاَ يَخَافُ لَدَىَّ المرسلون‏}‏ يعني‏:‏ لا يخاف عندي، ثم استثنى فقال‏:‏ ‏{‏إَلاَّ مَن ظَلَمَ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ إلا من ظلم نفسه من المرسلين، مثل آدم وسليمان، وإخوة يوسف، وداود وموسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين‏.‏ ويقال‏:‏ إلا من ظلم يعني‏:‏ لكن من ظلم ‏{‏ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوء‏}‏ أي‏:‏ فعل إحساناً بعد إساءته ‏{‏فَإِنّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ قال الكلبي‏:‏ ‏{‏إَلاَّ مَن ظَلَمَ‏}‏ يعني‏:‏ أشرك فهذا الذي يخاف ‏{‏ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً‏}‏ يعني‏:‏ توحيداً بعد سوء، يعني‏:‏ بعد شرك ‏{‏فَإِنّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏

قال أبو الليث رحمه الله‏:‏ ويكون إلا على هذا التفسير، بمعنى لكن لا وعلى وجه الاستثناء، وذكر عن الفراء أنه قال‏:‏ الاستثناء وقع في معنى مضمر من الكلام، كأنه قال‏:‏ لا يخاف لدي المرسلون، بل غيرهم الخائف‏.‏

وقال القتبي‏:‏ هذا لا يصح، لأن الإضمار يصح إذا كان في ظاهره دليل، ولكن معناه أن الله تعالى لما قال‏:‏ ‏{‏إِنّى لاَ يَخَافُ لَدَىَّ المرسلون‏}‏، علم أن موسى كان مستشعراً خيفة من قبل القبطي، فقال‏:‏ ‏{‏إَلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوء‏}‏ فإنه يخاف، ولكني أغفر له، ‏{‏فَإِنّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏ ويقال ‏{‏إَلاَّ مَن ظَلَمَ‏}‏ يعني، ولا من ظلم، ولا يبين ظلمه، ‏{‏ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوء‏}‏ فإنه لا يخاف أيضاً، ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ‏}‏ يعني‏:‏ جيب المدرعة، ثم أخرجها ‏{‏تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوء‏}‏ يعني‏:‏ من غير برص ‏{‏وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى‏}‏ يعني‏:‏ هذه الآية من تسع آيات، كما تقول أعطيت لفلان عشرة أبعرة فيها فحلان، أي منها وقد بيّن في موضع آخر حيث قال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا موسى تِسْعَ ءايات بَيِّنَاتٍ فاسأل بَنِى إسراءيل إِذْ جَآءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّى لأَظُنُّكَ ياموسى مَسْحُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 101‏]‏ وقد ذكرناها ‏{‏إلى فِرْعَوْنَ‏}‏ أي اذهب إلى فرعون ‏{‏وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين‏}‏ يعني‏:‏ إنهم كانوا قوماً عاصين قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءتْهُمْ ءاياتنا‏}‏ يعني‏:‏ جاءهم موسى بآياتنا التسع ‏{‏مُبْصِرَةً‏}‏ يعني‏:‏ معاينة‏.‏ ويقال‏:‏ مبينة، أي علامة لنبوته، ويقال‏:‏ مبصرة يعني‏:‏ مضيئة واضحة ‏{‏قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ‏}‏ أي بيّن ‏{‏وَجَحَدُواْ بِهَا‏}‏ يعني‏:‏ بالآيات بعد المعرفة ‏{‏واستيقنتها أَنفُسُهُمْ‏}‏ أنها من الله تعالى، وإنما استيقنتها قلوبهم، لأن كل آية رأوها استغاثوا بموسى، وسألوا بأن يكشف عنهم، فكشفنا عنهم، فظهر لهم بذلك أنه من الله تعالى، وفي الآية تقديم‏.‏ ومعناه وجحدوا بها ‏{‏ظُلْماً‏}‏ يعني‏:‏ شركاً ‏{‏وَعُلُوّاً‏}‏ يعني‏:‏ تكبراً وترفعاً عن أن يؤمنوا بما جاء به موسى ‏{‏واستيقنتها‏}‏ أنفسهم يعني‏:‏ وهم يعلمون أنها من الله‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين‏}‏ يعني‏:‏ الذين يفسدون في الأرض بالمعاصي، فكانت عاقبتهم الغرق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 19‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏15‏)‏ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ‏(‏16‏)‏ وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ‏(‏17‏)‏ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏18‏)‏ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا * دَاوُودُ ***** وسليمان عِلْماً‏}‏ يعني‏:‏ علم القضاء، والعلم بكلام الطير والدوابّ ‏{‏وَقَالاَ‏}‏ يعني‏:‏ داود وسليمان ‏{‏الحمد لِلَّهِ الذى فَضَّلَنَا على كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ المؤمنين‏}‏ بالكتاب والنبوة وكلام البهائم والطير والملك، ويقال‏:‏ فضلنا على كثير من الأنبياء، حيث لم يعط أحداً من الأنبياء عليهم السلام ما أعطانا‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ كان سليمان أعظم ملكاً، وأقضى من داود، وكان داود أشدَّ تعبداً من سليمان عليهما السلام‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَوَرِثَ سليمان * دَاوُودُ‏}‏ يعني‏:‏ ورث ملكه‏.‏ وقال الحسن‏:‏ ورث المال والملك لا النبوة والعلم، لأن النبوة والعلم من فضل الله، ولا يكون بالميراث ويقال‏:‏ ورث العلم والحكم لأن الأنبياء عليهم السلام لا يورثون دراهم ولا دنانير‏.‏

‏{‏وَقَالَ‏}‏ سليمان لبني إسرائيل‏:‏ ‏{‏وَقَالَ ياأيها الناس عُلّمْنَا مَنطِقَ الطير‏}‏ يعني‏:‏ أفهمنا وألهمنا منطق الطير، وذلك أن سليمان كان جالساً في أصحابه إذ مرّ بهم طير يصوت، فقال لجلسائه‏:‏ أتدرون ماذا يقول‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ إنه يقول‏:‏ ليت الخلق لم يخلقوا، فإذا خلقوا علموا لماذا خلقوا قال‏:‏ وصاح عنده ديك فقال‏:‏ هل تدرون ماذا يقول‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ إنه يقول اذكروا الله يا غافلين‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَئ‏}‏ يعني‏:‏ أعطينا علم كل شيء‏.‏ ويقال‏:‏ النبوة والملك وتسخير الجن والشياطين والرياح‏.‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا‏}‏ الذي أعطينا ‏{‏لَهُوَ الفضل المبين‏}‏ يعني‏:‏ المبين ويقال‏:‏ المبين تبين للناس فضلهم‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَحُشِرَ لسليمان جُنُودُهُ‏}‏ يعني‏:‏ جموعه، والحشر هو أن يجمع ليساق، ثم قال‏:‏ ‏{‏مِنَ الجن والإنس والطير فَهُمْ يُوزَعُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يساقون‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏يُوزَعُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يكفون، ويحبس أولاهم على آخرهم، وأصل الوزع الكف، يقال‏:‏ وزعت الرجل إذا كففته‏.‏ وعن الحسن أنه قال‏:‏ لا بد للناس من وزعة، أي‏:‏ من سلطان يكفهم‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ إنه استعمل جنياً عليهم يرد أولهم على آخرهم‏.‏ ويقال‏:‏ هكذا إعادة القوافل والعساكر‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏وَحُشِرَ‏}‏، أي‏:‏ جمع لسليمان جنوده مسيرة له من الجن والإنس والطير ‏{‏فَهُمْ يُوزَعُونَ‏}‏ يجلس أولهم على آخرهم، حتى يجتمعوا‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏حتى إِذَا أَتَوْا على وَادِى النمل‏}‏ وذلك أن سليمان كان له بساط فرسخ في فرسخ، ويقال‏:‏ أربع فراسخ في أربع فراسخ، وكان يضع عليه كرسيه وجميع عساكره، ثم يأمر الريح فترفعه، وتذهب به مسيرة شهر في ساعة واحدة، فركب ذات يوم في جموعه، فمر بواد النمل في أرض الشام‏.‏ ‏{‏قَالَتْ نَمْلَةٌ يأَيُّهَا * أَيُّهَا ****النمل ادخلوا مساكنكم‏}‏ يعني‏:‏ بيوتكم، ويقال‏:‏ حجركم ‏{‏لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ‏}‏ أي لا يهلكنكم، ويقال‏:‏ لا يكسرنكم ‏{‏سليمان وَجُنُودُهُ‏}‏ وإنما خاطبهم بقوله ‏{‏أَدْخِلُواْ‏}‏ بخطاب العقلاء لأنه حكى عنهم ما يحكى عن العقلاء، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ قوم سليمان لا يشعرون بكم ولو كانوا يشعرون بكم لا يحطمونكم لأنهم علموا أن سليمان عليه السلام ملك عادل لا بغي فيه ولا جور، ولئن علم بها لم توطأ ويقال‏:‏ ‏{‏وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ جنوده خاصة لأنه علم أن سليمان يعلم بمكانه ويتعاهده‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ النمل لا يشعرون بجنود سليمان حتى أخبرتهم النملة المنذرة، فرفع الريح صوتها إلى سليمان‏.‏ ‏{‏فَتَبَسَّمَ ضاحكا مّن قَوْلِهَا‏}‏ كما يكون ضحك الأنبياء عليهم السلام وإنما ضحك من ثنائها على سليمان بعدله في ملكه، يعني‏:‏ أنه لو شعر بكم لم يحطمكم‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏فَتَبَسَّمَ ضاحكا‏}‏ أي متعجباً‏.‏ ويقال‏:‏ فرحاً بما أنعم الله تعالى عليه، صار ضاحكاً، نصباً على الحال‏.‏ ‏{‏وَقَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ‏}‏ يعني‏:‏ ألهمني، ويقال‏:‏ أوزعني من الكف أيضاً، كأنه قال‏:‏ احفظ جوارحي لكيلا تشتغل بشيءٍ سوى شكر نعمتك عليَّ‏.‏ ‏{‏وعلى وَالِدَىَّ‏}‏ يعني‏:‏ النبوة والملك‏.‏ ‏{‏وَأَنْ أَعْمَلَ صالحا ترضاه‏}‏ يعني‏:‏ تقبله مني‏.‏ وذكر أنه مر بزارع، فقال‏؟‏ الزارع‏:‏ إنه ما أعطي مثل هذا الملك لأحد‏؟‏ فقال له سليمان‏:‏ ألا أنبئك بما هو أفضل من هذا‏؟‏ القصد في الغنى والفقر، وتقوى الله تعالى في السر والعلانية، والقضاء بالعدل في الرضا والغضب‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصالحين‏}‏ يعني‏:‏ أدخلني بنعمتك مع عبادك الصالحين، يعني‏:‏ المرسلين في جنتك‏.‏ فوقف سليمان عليه السلام بموضعه ليدخل النمل مساكنهم، ثم مضى‏.‏

قرأ يعقوب الحضرمي وأبو عمرو في إحدى الروايتين ‏{‏لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ‏}‏ بسكون النون وقراءة العامة بنصب النون وتشديدها، وهذه النون تدخل للتأكيد فيجوز التخفيف والتثقيل، ولفظه لفظ النهي، ومعناه جواب الأمر، يعني‏:‏ إن لم تدخلوا مساكنكم حطمكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 21‏]‏

‏{‏وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ‏(‏20‏)‏ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏21‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَتَفَقَّدَ الطير‏}‏ يعني‏:‏ طلب الطير، وذلك أنه أراد أن ينزل منزلاً، فطلب الهدهد ‏{‏فَقَالَ مَالِيَ * لِىَ لاَ ****أَرَى الهدهد‏}‏ وكان رئيس الهداهد، وكان سليمان قد جعل على كل صنف منهم رئيساً، ثم جعل الكركي رئيساً على جميع الطيور‏.‏ قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة ‏{‏مَا لِى‏}‏ بسكون الياء‏.‏ وقرأ الباقون بنصب الياء، وهما لغتان‏:‏ يجوز كلاهما، ثم قال‏:‏ ‏{‏أَمْ كَانَ مِنَ الغائبين‏}‏ يعني‏:‏ أم صار غائباً لم يحضر بعد‏.‏ ويقال‏:‏ الميم للصلة، ومعناه أكان من الغائبين يعني‏:‏ أصار من الغائبين‏.‏ وذكر أن الهدهد كان مهندساً يعرف المسافة التي بينهم وبين الماء‏.‏ ويقال‏:‏ كان يعرف الماء من تحت الأرض، ويراه كما يرى من القارورة‏.‏

وروى عكرمة أنه قال‏:‏ قلت لابن عباس‏:‏ كيف يرى الماء من تحت الأرض‏.‏ وأن صبياننا يأخذونه بالفخ فلا يرى الخيط والشبكة من تحت التراب‏.‏ فقال ابن عباس‏:‏ ما ألقى هذه الكلمة على لسانك إلا الشيطان، أما علمت أنه إذا نزل القضاء ذهب البصر‏.‏ فدعا سليمان أمير الطير، فسأله عن الهدهد، فقال‏:‏ أصلح الله الملك ما أدري أين هو‏؟‏ وما أرسلته مكاناً، فغضب سليمان عند ذلك وقال‏:‏ ‏{‏لاعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً‏}‏ يعني‏:‏ لأنتفن ريشه فلا يطير مع الطيور حولاً ولأشمسنه في الحر حتى يأكله الذر ‏{‏أَوْ لاَذْبَحَنَّهُ‏}‏ يعني‏:‏ لأقتلنه حتى لا يكون له نسل ‏{‏أَوْ لَيَأْتِيَنّى بسلطان‏}‏ يعني‏:‏ بحجة بينة واضحة أعذره بها ‏{‏مُّبِينٌ‏}‏ بيّن، فإن قيل كيف يجوز أن يعاقب من لا يجري عليه القلم‏؟‏ قيل له‏:‏ تجوز العقوبة على وجه التأديب إذا كان منه ذنب، كما يجوز للأب أن يؤدب ولده الصغير، وأما الذبح، فيجوز، وإن لم يكن منه ذنب‏.‏

قرأ ابن كثير ‏{‏***ليأتينني‏}‏ بنونين‏.‏ وقرأ الباقون بنون واحدة، فمن قرأ بنونين فهو للتأكيد، لأن النون الأولى مشددة، وتسمى تلك نون القسم، وهي في الحقيقة نونين، والنون الثانية للإضافة‏.‏ ومن قرأ بنون واحدة، فقد استقل الجمع بين النونات، واقتصر على نونين، فأدغم إحداهما في الأخرى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 26‏]‏

‏{‏فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ‏(‏22‏)‏ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ‏(‏23‏)‏ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ‏(‏24‏)‏ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ‏(‏25‏)‏ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ‏(‏26‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏مُّبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ‏}‏ قرأ عاصم بنصب الكاف‏.‏ وقرأ الباقون بالضم وهما لغتان‏:‏ ومعناهما واحد‏.‏ يعني‏:‏ لم يلبث إلا قليلاً‏.‏ ويقال‏:‏ لم يظل الوقت حتى جاء الهدهد ‏{‏فَقَالَ أَحَطتُ‏}‏ وفي الآية مضمر، ومعناه فمكث غير بعيد أن جاءه الهدهد‏.‏ فقال له سليمان‏:‏ أين كنت‏؟‏ فخرّ له ساجداً وقال‏:‏ أحطت ‏{‏بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ‏}‏ يعني‏:‏ علمت ما لم تعلم، وجئتك بخبر لم تكن تعلمه، ولم يخبرك عنه أحد ثم أخبره فقال‏:‏ ‏{‏وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ‏}‏ فإن قيل‏:‏ كيف يجوز أن يقال إن سليمان لم يعلم به، وكانت أرض سبأ قريبة منه، وهناك ملك لم يعلم به سليمان‏؟‏ قيل له‏:‏ علم به سليمان، ولكنه لم يعلم أنهم يسجدون للشمس‏.‏ ويقال‏:‏ إنه علم بها، ولكنه لم يعلم أن ملكها قد بلغ هذا المبلغ، وعلم أنهم أهل الضلالة، والإحاطة هي العلم بالأشياء بما فيها وجهتها كما قال ‏{‏وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ‏}‏، يعني‏:‏ من أرض سبأ، وهي مدينة باليمن بنبأ يقيني يعني‏:‏ بخبر صدق لا شك فيه‏.‏ ويقال‏:‏ بخبر عجيب‏.‏

قرأ ابن كثير وأبو عمرو ‏{‏سَبَإٍ‏}‏ بالنصب بغير تنوين‏.‏ وقرأ الباقون بالكسر والتنوين، فمن قرأ بالنصب جعله اسم مدينة، وهي مؤنثة لا تنصرف، ومن قرأ بالكسر والتنوين جعله اسم الرجل‏.‏ ويقال‏:‏ جعله اسم مكان‏.‏ فقال له سليمان‏:‏ وما ذلك الخبر‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏إِنّى وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ تملك أرض سبأ ‏{‏وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَئ‏}‏ يعني‏:‏ أعطيت علم ما في بلادها‏.‏ ويقال‏:‏ من كل صنف من الأموال والجنود، وأنواع الخير مما يعطى الملوك ‏{‏وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ‏}‏ يعني‏:‏ سريراً كبيراً أعظم من سريرك‏.‏ ويقال‏:‏ كان طول سريرها ثمانون ذراعاً في ثمانين مرصعاً بالذهب والدر والياقوت، وقوائمه من اللؤلؤ والياقوت، واسمها بلقيس‏.‏ قال مقاتل‏:‏ كانت أمها من الجن‏.‏ ويقال‏:‏ ولها عرش عظيم، أي شديد‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَجَدتُّهَا‏}‏ يعني‏:‏ رأيتها ‏{‏وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ‏}‏ يعني‏:‏ يعبدون الشمس ‏{‏مِن دُونِ الله وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم‏}‏ الخبيثة ‏{‏فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ‏}‏ يعني‏:‏ طريق الهدى، ومعناه صدهم الشيطان عن الإسلام، فهم لا يهتدون‏.‏ يعني‏:‏ لا يعرفون الدين قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ‏}‏ قرأ الكسائي ‏{‏إِلا‏}‏ بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتشديد، فمن قرأ بالتخفيف، فمعناه أن الهدهد قال عند ذلك‏:‏ أنْ لاَ تسجدوا لله‏؟‏ وقال مقاتل‏:‏ هذا قول سليمان قال لقومه‏:‏ ‏{‏أَلاَّ يَسْجُدُواْ‏}‏ ويقال هذا كلام الله ‏{‏أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ‏}‏ وهذا من الاختصار، فكأنه قال‏:‏ ألا يا هؤلاء اسجدوا لله‏.‏ ومن قرأ بالتشديد فمعناه فصدهم عن السبيل أن لا يسجدوا لله‏.‏

يعني‏:‏ لأن لا يسجدوا‏.‏ ويقال‏:‏ معناه وزين لهم الشيطان أعمالهم، لأن لا يسجدوا وإذا قرئ بالتخفيف، فهو موضع السجدة، وإذا قرئ بالتشديد، فليس بموضع سجدة في الوجهين جميعاً‏.‏ وهذا القول أحوط ‏{‏الذى يُخْرِجُ الخبء‏}‏ يعني‏:‏ المخبئات ‏{‏فِي السموات *** والارض‏}‏ مثل الثلج والمطر، وفي الأرض مثل النبات والأشجار والكنوز والموتى‏.‏ ويقال‏:‏ الذي يظهر سر أهل السموات والأرض، ويعلنها فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ‏}‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش العظيم‏}‏ أي الذين يعلم ذلك‏.‏ قرأ عاصم والكسائي في رواية حفص ‏{‏مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ‏}‏ بالتاء على معنى المخاطبة لهم‏.‏ وقرأ الباقون بالياء على معنى الخبر لهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 33‏]‏

‏{‏قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏27‏)‏ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ‏(‏28‏)‏ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ‏(‏29‏)‏ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏(‏30‏)‏ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ‏(‏31‏)‏ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ‏(‏32‏)‏ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ سليمان ‏{‏سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ‏}‏ في قولك ‏{‏أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين‏}‏ يعني‏:‏ أم أنت فيها من الكاذبين، فكتب كتاباً وقال له‏:‏ ‏{‏اذهب بّكِتَابِى هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فانظر مَاذَا يَرْجِعُونَ‏}‏ يعني‏:‏ على ماذا يتفقون‏.‏ ‏{‏ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ‏}‏‏.‏ يعني‏:‏ ارجع عنهم ويقال ليس فيها تقديم‏.‏ ومعناه‏:‏ ‏{‏اذهب بّكِتَابِى هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ استأخر في ناحية غير بعيد، ‏{‏فانظر مَاذَا يَرْجِعُونَ‏}‏‏؟‏ أي ماذا يريدون من الجواب‏؟‏ قرأ ابن عامر وابن كثير، ‏{‏***فألقهي‏}‏ إليهم بالياء بعد الهاء‏.‏ وقرأ أبو عمرو في إحدى الروايتين وقرأ حمزة وعاصم بالجزم‏.‏ وقرأ نافع ‏{‏هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ‏}‏ بكسر الهاء، ولا يبلغ الياء، وكل ذلك جائز في اللغة‏.‏ والقراءة بالياء أوسع اللغتين وأكثر استعمالاً‏.‏ قال مقاتل‏:‏ فجعل الهدهد الكتاب في منقاره، ثم طار حتى وقف على رأس المرأة، فرفرف ساعة، والناس ينظرون إليه، فرفعت المرأة رأسها، فألقى الكتاب في حجرها‏.‏

وروي في بعض الروايات أنها كانت نائمة في البيت، وقد أغلقت بابها، فدخل من الكوة، ووضع الكتاب على صدرها‏.‏ ويقال‏:‏ عند رأسها‏.‏ وأكثر الروايات أنه ألقاه في حجرها، فقرأت الكتاب‏.‏ قرأت فيه الخاتم، فارتعدت وخضعت، وخضع من معها من الجنود، لأن ملك سليمان كان في خاتمه، فقرأت الكتاب، وأخبرتهم بما فيه قال مقاتل‏:‏ ولم يكن في الكتاب إلا قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم * أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَىَّ وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ‏}‏ لأن كلام الأنبياء عليهم السلام على الإجمال، ولا يكون على التطويل‏.‏ وقال في رواية الكلبي‏:‏ نكتب فيه إن كنتم من الإنس، فعليكم بالطاعة، وإن كنتم من الجن، فقد عبدتم إلى قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قَالَتْ‏}‏ أي المرأة ‏{‏قَالَتْ ياأيها الملا إِنّى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ‏}‏ يعني‏:‏ حسن‏.‏ ويقال‏:‏ كتاب مختوم‏.‏

وروي عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «كرامة الكتاب ختمه»‏.‏ ويقال‏:‏ كل كتاب لا يكون مختوماً، فهو مغلوب‏.‏ ويقال‏:‏ كان سليمان عليه السلام إذا كتب إلى الشياطين ختمه بالحديد، وإذا كتب إلى الجن ختمه بالصفر، وإذا كتب إلى الإنس ختمه بالطين، وإذا كتب إلى الملوك ختمه بالفضة، فجعل ختم كتابها من ذهب‏.‏ ويقال‏:‏ إن المرأة إنما قالت‏:‏ ‏{‏كِتَابٌ كَرِيمٌ‏}‏، لأنها ظنت أنه نزل من السماء، فلما نظرت إليه قرأت عنوان‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم‏}‏ يعني‏:‏ عنوانه من سليمان وإنه يعني‏:‏ في داخله، وأول سطره بسم الله الرحمن الرحيم ‏{‏أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَىَّ‏}‏ أي‏:‏ لا تتعظموا علي، ولا تتطاولوا علي‏.‏

ويقال‏:‏ لا تترفعوا علي، وإن كنتم ملوكاً‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ‏}‏ يعني‏:‏ مستسلمين خاضعين‏.‏ ويقال‏:‏ يعني‏:‏ مخلصين منقادين طائعين‏.‏ قال محمد بن موسى‏:‏ إنما بدأ سليمان بنفسه لعلمه بأن ذكره على سائر الملوك أعظم من ذكره معبوده، فهول عليها بذكر نفسه ثم ذكر معبوده، فذهب بنفسها، وانقادت في مملكتها، وإنما خافت من هول سليمان حين آمنت بالله فقالت عند ذلك‏:‏ رب ظلمت نفسي بعبادة الشمس، وما خفت منك، فالآن عرفتك، وتبت إليك وأنت رب العالمين ‏{‏قَالَتْ‏}‏ المرأة ‏{‏قَالَتْ ياأيها الملا‏}‏ يعني‏:‏ الأشراف والقادة ‏{‏أَفْتُونِى فِى أَمْرِى‏}‏ وكان لها ثلاثمائة وثلاثة عشر قائداً تحت يد كل قائد ألف رجل، وقد قيل أكثر من هذا‏:‏ ‏{‏أَفْتُونِى فِى أَمْرِى‏}‏‏.‏ يعني‏:‏ أجيبوني في أمري‏.‏ ويقال‏:‏ بينوا لي أمري وأخبروني‏.‏ ويقال‏:‏ أشيروا علي ‏{‏مَا كُنتُ قاطعة أَمْراً‏}‏ أي قاضية أمراً‏.‏ ويقال‏:‏ فاصلة أمراً ‏{‏حتى تَشْهَدُونِ‏}‏ يعني‏:‏ تحضرون أي‏:‏ لا أقطع أمراً دونكم ‏{‏قَالُواْ‏}‏ مجيبين لها ‏{‏نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ‏}‏ يعني‏:‏ عدة وكثرة وسلاحاً وقتال شديد ‏{‏والامر إِلَيْكِ‏}‏ يعني‏:‏ أخبرناك بما عندنا أيتها الملكة، ومع ذلك لا نجاوز ما تقولين‏.‏ يعني‏:‏ إن أمرتينا بقتال قاتلنا، وإن أمرتنا بغير ذلك أطعناك ‏{‏فانظرى مَاذَا تَأْمُرِينَ‏}‏ يعني‏:‏ ماذا تشيرين إلينا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 38‏]‏

‏{‏قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ‏(‏34‏)‏ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ‏(‏35‏)‏ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ‏(‏36‏)‏ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ‏(‏37‏)‏ قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قَالَتْ‏}‏ يعني‏:‏ المرأة ‏{‏إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً‏}‏ على وجه القوة والغلبة ‏{‏أَفْسَدُوهَا‏}‏ يعني‏:‏ أهلكوها وخربوها ‏{‏وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً‏}‏ يعني‏:‏ أهانوا أشرافها وكبراءها ليستقيم لهم الأَمر ‏{‏وكذلك يَفْعَلُونَ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هذا قول الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏{‏وكذلك يَفْعَلُونَ‏}‏ تصديقاً لقول المرأة قال الحسن‏:‏ هذا قول بلقيس‏:‏ إن سليمان وجنوده كذلك يفعلون، وأكثر المفسرين على خلاف ذلك‏.‏ ثم قالت المرأة‏:‏ ‏{‏وَإِنّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ‏}‏ يعني‏:‏ أصانعهم بالمال، فإن كان من أهل الدنيا، فإنه يقبل ويرضى بذلك ويقال‏:‏ أختبره أملك هو أم نبي، فإن كان ملكاً قبلها، وإن كان نبياً لم يقبلها ‏{‏فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المرسلون‏}‏ يعني‏:‏ أنظر بماذا يرجع المرسلون من الجواب من عنده‏؟‏ وذكر في الخبر أنها بعثت إليه لبنتين من ذهب والمسك والعنبر، وبعثت بعشرة غلمان، وعشرة جواري‏.‏ وكان في الجواري بعض الغلظة، وكان في الغلمان بعض اللين، وأمرت بأن تخضب أيديهم جميعاً، وجعلتهم على هيئة الجواري، وبعثت إليه جوهرة في ثقبها اعوجاج، وطلبت أن يدخل الخيط فيها، وكتبت إلى سليمان إن كنت نبياً، فميز بين الجواري والغلمان، فأمر سليمان الشياطين بأن يلقوا في طريق الرسل لبناً كثيراً من الذهب، فلما جاءت رسل بلقيس استحقروا هديتهم، فلما قدموا على سليمان أمر بماء، فوضع وأمر الغلمان والجواري بأن يتوضؤا، فجعل الغلام يحدر الماء على يده حدراً، وأما الجواري، فكن يصببن صباً‏.‏ وفي رواية أُخرى كانت الجارية تأخذ الماء بكفها، وتدلك ذراعها، وأما الجوهرة، فأخذ بوردة حمراء عقد فيها خيطاً، ثم أدخلها في الحجر حتى خرجت من الجانب الآخر، فرد الهدية‏.‏ وقال للوافد‏:‏ ‏{‏أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ‏}‏ يعني‏:‏ أتغرونني بالمال‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ‏}‏ قال بعضهم‏:‏ يعني‏:‏ جاء الرسول‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ يعني‏:‏ جاء بريدها والأول أشبه، لأنه خاطب الرسول‏.‏ ‏{‏قَالَ *** أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ‏}‏ قرأ حمزة ‏{‏أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ‏}‏ بنون واحدة والتشديد، وقرأ الباقون بنونين وأصله نونان، إلا أن حمزة أدغم إحداهما في الأخرى، وشددها‏.‏ وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ‏{‏***أتمدونني‏}‏ بالياء في الوصل، لأنه في الأصل الياء، وهو ياء الإضافة‏.‏ وقرأ الباقون بغير ياء، لأن الكسر يدل عليه‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏بِمَالٍ فَمَا ءاتانى الله‏}‏ يعني‏:‏ ما أعطاني الله عز وجل من النبوة والحكمة والدين والإسلام والملك ‏{‏خَيْرٌ مّمَّا ءاتاكم‏}‏ يعني‏:‏ خير مما أعطاكم من الدنيا والمال ‏{‏بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ‏}‏ يعني‏:‏ إذا أهدى بعضكم إلى بعض يقال‏:‏ معناه بل أنتم تفرحون بهديتكم إذا ردت إليكم، لأنكم قليلوا المال‏.‏ ويقال‏:‏ لأنكم مكاثرون بالدنيا‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ارجع إِلَيْهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ قال سليمان للأمير الوافد‏:‏ ارجع إليهم بالهدية، فإن لم يحضروني ‏{‏فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا‏}‏ يعني‏:‏ لا طاقة لهم بها‏.‏ قال بعض المتقدمين‏:‏ ومتى يكون لهم طاقة بجنود سليمان، وكان جنود سليمان من الجن والإنس والشياطين ‏{‏وَلَنُخْرِجَنَّهُم مّنْهَا‏}‏ يعني‏:‏ من أرض سبأٍ ‏{‏أَذِلَّةٍ‏}‏ يعني‏:‏ مغلولة أيديهم إلى أعناقهم ‏{‏وَهُمْ صاغرون‏}‏ أي ذليلون، فلما بلغ الخبر إلى المرأة ورسالة سليمان لم تجد بداً من الخروج إليه، فخرجت نحوه، فلما علم سليمان بمسيرها إليه ‏{‏قَالَ‏}‏ لجلسائه ‏{‏قَالَ يأَيُّهَا الملا أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا‏}‏ يعني‏:‏ بسرير بلقيس ‏{‏قَبْلَ أَن يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ‏}‏ أي موحدين‏:‏ لأنه قد كان أوحي إلى سليمان بأنها تسلم‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إنما أراد سليمان بإحضار سريرها قبل أن تسلم ليكون السرير له، لأنها لو أسلمت حرم عليه ما كان لها وقال بعضهم‏:‏ إنما أراد أن يبين دلالة نبوته عندها، فتعلم المرأة أنه نبي فتسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 41‏]‏

‏{‏قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ‏(‏39‏)‏ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ‏(‏40‏)‏ قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قَالَ عِفْرِيتٌ مّن الجن‏}‏ يعني‏:‏ ما أراد من الجن والعفريت هو الشديد القوي ويقال‏:‏ العفريت من كل شيء المبالغ والحاذق في أمره ‏{‏قَالَ عِفْرِيتٌ مّن الجن أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ‏}‏ يعني‏:‏ في مجلس القضاء، وكان قضاؤه إلى إنصاف النهار‏.‏ ويقال‏:‏ إلى وقت الضحى ‏{‏وَإِنّى عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ أَمِينٌ‏}‏ قوله ‏{‏عَلَيْهِ‏}‏ أي على إتيان السرير لقوي على حمله أمين على ما فيه من الجواهر واللؤلؤ وغير ذلك‏.‏ فقال سليمان‏:‏ أنا أريد أسرع من هذا ‏{‏قَالَ الذى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الكتاب‏}‏ يعني‏:‏ آصف بن برخيا، وكان وزيره ومؤدبه في حال صغره، وكان يعلم الاسم الأعظم، ويقرأ كتاب الله‏.‏ فقال‏:‏ يا إلهنا وإله كل شيء إلهاً واحداً لا إله إلا أنت‏.‏ ويقال‏:‏ هو قوله يا حي يا قيوم‏.‏ ويقال يا ذا الجلال والإكرام ويقال إن الذي عنده علم من الكتاب هو جبريل عليه السلام، وهو قول المعتزلة‏.‏

قال الشيخ الإمام‏:‏ لأنهم لا يرون كرامة الأولياء وأكثر المفسرين على أنه آصف بن برخيا رضي الله عنه قال‏:‏ ‏{‏قَالَ الذى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الكتاب أَنَاْ ءاتِيكَ‏}‏ يعني‏:‏ قبل أن ينتهي إليك الذي وقع عليه منتهى بصرك، وهو جاءٍ إليك‏.‏ ويقال‏:‏ قبل أن تطرف‏.‏ قال له سليمان‏:‏ لقد أسرعت إن فعلت ذلك، فدعا بالاسم الأعظم، فإذا بالسرير قد ظهر بين يدي سليمان ‏{‏فَلَمَّا رَءاهُ‏}‏ أي‏:‏ رأى سليمان السرير ‏{‏مُسْتَقِرّاً عِندَهُ‏}‏ أي‏:‏ موجوداً عنده ‏{‏قَالَ‏}‏ سليمان ‏{‏هذا مِن فَضْلِ رَبّى لِيَبْلُوَنِى‏}‏ يعني‏:‏ ليختبرني ‏{‏شَكَرَ‏}‏ هذه النعمة ‏{‏أَمْ أَكْفُرُ‏}‏ نعم الله تعالى إذا رأيت من دوني هو أعلم مني‏.‏ قال مقاتل‏:‏ فلما رفع رأسه قال‏:‏ الحمد لله الذي جعل في أهلي من يدعوه، فيستجيب له ‏{‏وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ‏}‏ يعني‏:‏ يفعل لنفسه، لأنه يعود إليه حيث يستجيب المزيد من الله تعالى ‏{‏وَمَن كَفَرَ‏}‏ النعم يعني‏:‏ ترك الشكر ‏{‏فَإِنَّ رَبّى غَنِىٌّ‏}‏ عن شكر العباد ‏{‏كَرِيمٌ‏}‏ في الإفضال على من شكره بالنعمة‏.‏ ويقال‏:‏ كريم لمن شكر من عباده‏.‏ ويقال‏:‏ لما رأى آصف السرير مستقراً عنده خرج من فضل نفسه، ورجع إلى فضل الله، ورأى الحول والقوة لله تعالى، فقال‏:‏ هذا من فضل ربي لا من فضل نفسي، ولو لم يقل من فضل ربي لسقط عن المنزلة أسرع من إتيان السرير حيث قال‏:‏ ‏{‏قَالَ عِفْرِيتٌ مّن‏}‏ حيث شهر نفسه بالفضيلة‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏قَالَ عِفْرِيتٌ مّن‏}‏‏.‏ يعني‏:‏ بالله آتيك لا بالمدة والحيلة؛ فأسقط الحول والقوة عن نفسه، وسلم الأمر إلى الله‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏هذا مِن فَضْلِ رَبّى‏}‏، فلما رأى سليمان السرير عنده علم أن هذا ليس من قوة جلسائه، إنما هو من صنع ربه‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قَالَ نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا‏}‏ يعني‏:‏ قال سليمان عليه السلام‏:‏ غيّروا لها عرشها عن صورته، والتنكير هو التغيير يقال‏:‏ نكرته فنكر، أي غيرته، فتغير‏.‏

وروى الضحاك عن ابن عباس قال‏:‏ التنكير أن يزاد فيه أو ينقص منه يعني‏:‏ زيدوا في سريرها، وانقصوا منه، حتى نرى أنها تعرف سريرها أم لا، وذلك قوله‏:‏ ‏{‏نَنظُرْ أَتَهْتَدِى‏}‏ يعني‏:‏ أتعلم أنه عرشها ‏{‏أَمْ تَكُونُ مِنَ الذين لاَ يَهْتَدُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لا يعلمون يقال‏:‏ إنه جعل أعلاه أسفله، وأسفله أعلاه‏.‏ ويقال‏:‏ إنه أمر بذلك، لأن الجن قالوا لسليمان عليه السلام في عقلها شيء من النقصان، فأراد سليمان أن يمتحن عقلها، فأمر بأن يغير السرير، ويسألها عن ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 44‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ‏(‏42‏)‏ وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ ‏(‏43‏)‏ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءتْ‏}‏ يعني‏:‏ بلقيس وجلست على السرير ‏{‏قِيلَ‏}‏ لها ‏{‏أَهَكَذَا عَرْشُكِ‏}‏ يعني‏:‏ أهكذا سريرك ‏{‏قَالَتْ‏}‏ بلقيس ‏{‏كَأَنَّهُ هُوَ‏}‏ شبهته به قال مقاتل‏:‏ شبهوا عليها، فشبهت عليهم، ولو قيل لها أهذا عرشك‏؟‏ لقالت‏:‏ نعم‏.‏ ويقال‏:‏ إنها شكت في ذلك، لأنها تركت سريرها في سبعة أبيات مقفلة أبوابها، ومفاتيح الأقفال بيدها‏.‏ فقال سليمان‏:‏ ‏{‏وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا‏}‏ يعني‏:‏ حمد الله على ما أعطاه من إِتيان السرير وحضورها، وعلى ما أعطاه قبل إتيانها من النبوة والإسلام، فقال‏:‏ ‏{‏وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا‏}‏‏.‏ يعني‏:‏ أعطينا العلم من قبل مجيئها‏.‏ ويقال‏:‏ أعطينا علم ملكها وعرشها من قبل مجيئها ‏{‏وَكُنَّا مُسْلِمِينَ‏}‏ يعني‏:‏ مخلصين لله تعالى‏.‏ ويقال‏:‏ مسلمين منقادين له‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله‏}‏ يعني‏:‏ عبادتها التي كانت تعبد الشمس منعها عن الإسلام‏.‏ ويقال‏:‏ معناه صدها إبليس عن الإيمان، فتكون ‏{‏مَا‏}‏ ها هنا بمعنى الفاعل‏.‏ ويقال‏:‏ ما هنا بمعنى المفعول، فكأنه يقول صدها سليمان عما كانت تعبد من دون الله، كرجل يقول‏:‏ منعت فلاناً الماء، يعني‏:‏ عن الماء‏.‏

ويقال معناه‏:‏ أن الله تعالى صدّها عما كانت تعبد من دون الله، ووفقها للإسلام‏.‏ ويقال‏:‏ صدها عن الإسلام العبادة التي كانت تعبدها، لأنها نشأت على ذلك وربيت، ولم تعرف إلا قوماً يعبدون الشمس ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كافرين‏}‏ أي‏:‏ من قوم جاحدين لله تعالى‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قِيلَ لَهَا ادخلى الصرح‏}‏ يعني‏:‏ القصر، وذلك لأنها لما أقبلت قالت الجن‏:‏ لقد لقينا من سليمان ما لقينا من التعب، فلو اجتمع سليمان وهذه، وما عندها من العلم لهلكنا، وخشوا أن يتزوجها، ويكون بينهما ولد، فيرث الملك فيبقون في ذلك العناء إلى الأبد فأرادوا إن يبغضوها إلى سليمان فقالوا إن رجليها شعراوان وقال مقاتل كانت أمها جنية وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال كانت أمها جنية وكانت شعراء‏.‏ وقال بعضهم هذا لا يصح لأن الجن ليسوا من جنس الآدميين فلا يكون بينهما شهوة ونسل وقد قال الله تعالى ‏{‏ياأيها الناس إِنَّا خلقناكم مِّن ذَكَرٍ وأنثى وجعلناكم شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لتعارفوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 13‏]‏‏.‏ يعني‏:‏ آدم وحواء عليهما السلام فلا يجوز أن يكون النسل من غيرهما ويقال إنهم قالوا لسليمان إن رجلها تشبه حافر الدواب فأراد سليمان أن ينظر إلى رجليها فأمر بأن يوضع سريرها في الصرح المبني من القوارير يعني‏:‏ من الزجاج وجعل تحت الصرح الماء فيه السمك فجلس سليمان على سريره في الصرح ومقدميه ثم أمر بلقيس بأن تدخل الصرح ‏{‏فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً‏}‏ أي فلما جاءت إلى الصرح رأت ما فيه من السمك حسبته لجة أي ظنت أنه ماء كثير بين يدي سرير سليمان فأرادت أن تخوض في الماء فشمرت ثيابها ‏{‏وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا‏}‏ فنظر سليمان إلى ساقيها وكانت شعراً فاستشار سليمان الإنس في ذلك فأشاروا عليه بالموسى فقال سليمان الموسى تخدش ساقيها فاستشار الجن فأشاروا عليه بالنورة فأصل النورة من ذلك الوقت وروي أن سليمان ما نظر إلى ساق أحسن من ساقيها ولا خلاف بين الروايتين لأنه يكون أحسن الساقين شعراوين وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت أنا أحسن ساقين أم بلقيس فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 49‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ ‏(‏45‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏46‏)‏ قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ‏(‏47‏)‏ وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ‏(‏48‏)‏ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

قوله عز وجل ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صالحا أَنِ اعبدوا الله‏}‏ يعني‏:‏ أمرهم بأن يعبدوا الله ويطيعوه ويوحدوه ‏{‏فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ مؤمنون وكافرون فإذا قوم صالح مؤمن وكافر يختصمون يقول كل فريق الحق معي وقد ذكرنا خصومتهم في سورة الأعراف وهي قوله‏:‏ ‏{‏قَالَ الملأ الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ ءَامَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالحا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قالوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 75‏]‏ الآية فطلبت الفرقة الكافرة على تصديق صالح العذاب، ‏{‏قَالَ‏}‏ لهم صالح عليه السلام ‏{‏قَالَ ياقوم لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بالسيئة‏}‏، أي‏:‏ بالعذاب ‏{‏قَبْلَ الحسنة‏}‏، يعني‏:‏ العافية‏.‏ ويقال‏:‏ التوبة وهو قولهم‏:‏ يا صالح إن كان ما أتيت به حقاً، فأتنا بما تعدنا من العذاب‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ الله‏}‏ يعني‏:‏ لكي تُرحموا، فلا تعذبوا‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قَالُواْ اطيرنا بِكَ‏}‏ وأصله تطيرنا بك يعني‏:‏ تشاءمنا بك‏.‏ ‏{‏وَبِمَن مَّعَكَ‏}‏، وذلك أنه قد أصابهم القحط بتكذيبهم إياه‏.‏ فقالوا‏:‏ هذا الذي أصابنا بشؤمك وشؤم أصحابك ‏{‏قَالَ‏}‏‏:‏ لهم صالح ‏{‏طَائِرُكُمْ عِندَ الله‏}‏، يعني‏:‏ ما أصابكم، فمن الله ويقال‏:‏ هذا الذي يصيبكم هو مكتوب عند الله، ويقال‏:‏ خيركم وشركم ورخاؤكم وشدتكم من عند الله عليكم بفعلكم‏.‏ ويقال‏:‏ عقوبتكم عند الله ‏{‏بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ‏}‏، أي‏:‏ تبتلون بذنوبكم ويقال‏:‏ تختبرون بالخير والشر، وأصل الفتنة هي الاختبار ويقال‏:‏ فتنت الذهب بالنار، لينظر إلى جودته قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَكَانَ فِى المدينة‏}‏، يعني‏:‏ في قرية صالح، وهي الحجر ‏{‏تِسْعَةُ رَهْطٍ‏}‏، كانوا أغنياء قوم صالح ‏{‏يُفْسِدُونَ فِى الارض وَلاَ يُصْلِحُونَ‏}‏، يعني‏:‏ يعملون بالمعاصي في أرض قريتهم، ولا يصلحون، أي لا يطيعون الله تعالى فيها، ولا يتوبون من المعصية، ولا يأمرون بها، فسأل قوم صالح منه ناقة، فصارت الناقة بلية لهم، فكانت تأتي مراعيهم، فتأكل جميع ما فيها، فتنفر منها دوابهم، وتشرب ماء، بئرهم العذب الذي يشربون منه، فجعلوا نيابة لشرب الماء، اللبن، فتشرب ذلك اليوم الماء كله، وتسقيهم اللبن، حتى يرووا، فجاء هؤلاء التسعة، وفيهم قدار بن سالف عاقر الناقة‏.‏ وكان ابن زانية أحمر أزرق، ومصدع بن دهر وكانا قد قعدوا لها، فلما مرت بهما، رماها مصدع بسهم ثم قال‏:‏ يا قدار اضرب، فضرب عرقوبها فعقروها، ثم سلخوها، واقتسموا لحمها، فأوعدهم الله الهلاك، وبيّن لهم العلامة، بتغيير ألوانهم، فاجتمعوا التسعة ‏{‏قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بالله‏}‏، يعني‏:‏ تحالفوا بالله ‏{‏لَنُبَيّتَنَّهُ‏}‏، قرأ حمزة والكسائي بالتاء وضم التاء الثاني ‏{‏وَأَهْلَهُ ثُمَّ‏}‏، بالتاء وضم اللام والباقون بالنون، ونصب التاء، ‏{‏وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ‏}‏ بالنون ونصب اللام، فمن قرأ‏:‏ بالنون جعل تقاسموا خبراً، فكأنهم قالوا‏:‏ متقاسمين فيما بينهم، ‏{‏لَنُبَيّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ‏}‏ أي‏:‏ لنقتلنه وعياله‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏وَأَهْلَهُ‏}‏ يعني‏:‏ ومن آمن معه، ومن قرأ بالتاء، فمعناه‏:‏ جعل تقاسموا أمراً فكان أمر بعضهم بعضاً وقال بعضهم لبعض‏:‏ تحالفوا ‏{‏لَنُبَيّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ‏}‏ ‏{‏لِوَلِيّهِ‏}‏، يعني‏:‏ لولي صالح إن سألونا فنقول ‏{‏مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ‏}‏ يعني‏:‏ إهلاك أهله وقومه‏.‏ ويقال‏:‏ ما حضرنا عند إهلاك أهله، ‏{‏وِإِنَّا لصادقون‏}‏، يعني‏:‏ إنا لصادقون بما نقول لهم‏.‏ ويقال‏:‏ معناه إنا لصادقون عندهم، فيصدقونا إذا أخرجنا من بيوتنا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 53‏]‏

‏{‏وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏50‏)‏ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏51‏)‏ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏52‏)‏ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَكَرُواْ مَكْراً‏}‏ يعني‏:‏ أرادوا قتل صالح ‏{‏وَمَكَرْنَا مَكْراً‏}‏، يعني‏:‏ جثم عليهم الجبل، فماتوا كلهم ويقال‏:‏ رجمتهم الملائكة عليهم السلام بالحجارة، فماتوا فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَكَرُواْ مَكْراً‏}‏ أي‏:‏ أرادوا قتل صالح، ‏{‏وَمَكَرْنَا مَكْراً‏}‏ يعني‏:‏ أراد الله عز وجل قتلهم جزاء لأعمالهم، ‏{‏وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏، بأن الملائكة يحرسون صالحاً في داره‏.‏ قرأ عاصم في رواية أبي بكر‏:‏ ‏{‏مُهْلِكَ‏}‏ بنصب الميم واللام، وفي رواية حفص ‏{‏مُهْلِكَ‏}‏ بنصب الميم وكسر اللام‏.‏

وقرأ الباقون‏:‏ بضم الميم، ونصب اللام‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة مَكْرِهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ جزاء مكرهم ‏{‏أَنَّا دمرناهم‏}‏ قرأ عاصم وحمزة والكسائي أنا بالنصب، وقرأ الباقون بكسر الألف، فمن قرأ بالنصب، فمعناه فانظر كيف كان عاقبة مكرهم، لأنا دمرناهم ويجوز أن يكون خبر كان ومن قرأ‏:‏ بالكسر لأنه لما قال، ‏{‏فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة مَكْرِهِمْ‏}‏‏.‏ يعني‏:‏ إيش كان عاقبة مكرهم، ثم فسر فقال‏:‏ إنا دمرناهم على وجه الاستئناف، ‏{‏وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏، يعني‏:‏ أهلكناهم بصيحة جبريل عليه السلام‏.‏ ويقال‏:‏ خرجت النار من تحت أرجلهم وأحرقتهم‏.‏ ويقال‏:‏ إنهم خرجوا ليلاً لإهلاك صالح، فدمغتهم الملائكة بأحجار من حيث لا يرونهم، فقتلوهم، وقومهم أجمعين‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً‏}‏ يعني‏:‏ خالية من الناس‏.‏ ويقال‏:‏ بيوتهم خاوية‏.‏ يعني‏:‏ مساكنهم خربة ساقطة، ‏{‏بِمَا ظَلَمُواْ‏}‏ أي‏:‏ أشركوا‏.‏ ويقال‏:‏ بكفرهم بالله تعالى صارت خاوية نصباً على الحال‏.‏ يعني‏:‏ فانظر إلى بيوتهم خاوية، وقرئ في الشاذ خاوية بالضم، على معنى النعت، للبيوت ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً‏}‏ يعني‏:‏ في إهلاكهم، وفيما أصابهم لغيره لمن بعدهم ‏{‏لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏، يعني‏:‏ يعقلون ويصدقون، ‏{‏وَأَنجَيْنَا الذين ءامَنُواْ‏}‏، يعني‏:‏ صدقوا صالحاً برسالته، ‏{‏وَكَانُواْ يَتَّقُونَ‏}‏ الشرك والفواحش‏.‏